الجزء الثاني والأخير
لا أعلم هل أرتجف من البرد ، أم مما عرفته عن ذلك الكتاب المخيف .. أرجح أنه الكتاب ..
ذهبت لعمل قدح من الشاي الساخن ، لأطرد به تلك الرجفة التي أعتلت أوصالي .. واخذت أتأمل نيران الموقد وافكر في ذات الوقت عما حدث ..
الأرجح كما هو ظاهر لي أن تلك الفتاة كانت تهرب من ذلك الشيء .. وأعتقد أيضاً أن سبب ما حدث لها هو الكتاب نفسه ..
تملكني فضول قوي في أن أعرف عما يتحدث الكتاب بالضبط .. لذلك أخذت قدح الشاي الساخن ، وذهبت أتلمس الكتاب الذي كان قد جف بعض الشيء .. ولا أخفي عليكم أن مزيج من الرهبة والرعب أنتابني ، لكن فضولي تغلب على خوفي .. لذلك حملت الكتاب وجلست على مقعدي الخشبي ووضعت الكتاب فوق المكتب وأخذت أتأمله متردداً ..
- هل أفتحه لأرى ما به ؟ أم أتركه ؟ وماذا سيحدث إذا فتحته ؟
أعتقد لابد لي من قرائته لأعلم يقيناً عما يحكي ، وأيضاً قد يلقي الضوء على ما حدث للمرأة ..
أرتشفت قليلاً من الشاي الدافيء..
وفتحت الكتاب ببطء ..
وبدأت أقرأ .
* * *
شمس المعارف الكبرى
للشيخ أحمد بن علي البوني قدس الله روحه
شهادة أزل فمن نور هذه الشهادة أغترف المصطافون علماً فأفهم ذلك والترتيب الأبدي في الشهادتين المتصلتين بعوالم الجان وأولي العلم فهذه شهادة الأبد * فمن فهم سرهاتين الشهادتين شاهد ما الملكوتين وما أودعاه بسر الأتصال بالكشفيات * ولكل هيبة توصله إلى جميع الحكميات *
لا أخفي عليكم أنني وأنا أقرأ هذه الكلمات شعرت بخوف مبهم غامض .. وشعرت بجسدي وكأنه تهرب من داخله الدماء .. وشعرت بيدي وهي تقلب الصفحات كأنها فقدت إحساسها تماماً .. واصلت القراءة :
هذا القانون القويم يشتمل على أربعين فصلاً كل فصل يشتمل على معاني ورموز خفيات وظاهرات فتدبره بعقلك وتأمله بفكرك *
الفصل الأول في الحروف المعجمة وما يترتب فيها من الأسرار والأضمارات * الفصل الثاني في الكسر والبسط وترتيب الأعمال في الأوقات والساعات * الفصل الثالث في أحكام منازل القمر الثمانية والعشرين الفلكيات * الفصل الرابع في احكام البروج الأثنى عشر وما لها من الأشارات والأرتباطات * الفصل الخامس .............
توقفت قليلاً وأنا أشعر أن قدمي ترتعش وسخونة عجيبة تعتريها ، وجسدي لا أكاد أشعر به .. تسائلت في رهبة عن سر ذلك الكتاب الملعون وهل ما يحدث لي يحدث حقاً ؟ أم أنها مجرد أوهام خيلها لي البرد والليل والوحدة .. شرعت أقلب في صفحات الكتاب علني أجد ما يفهمني .. لكن طنين عجيب بدأ يدوي داخل أذني ، وحالة من الغثيان أنتابتني .. لكني تحاملت وأخذت أواصل القراءة ..
وأعلم أن للأعداد أسرار كما ان للحروف آثار وان العالم العلوي يمد العالم السفلي فعالم الفرش يمد عالم النار وعالم النار يمد فلك زحل وفلك زحل يمد فلك المشترى .....
أقسمت عليك يا سمسمائيل وخدمتك وأعوانك من العلوية والسفلية وخدام حرف الألف جميعاً ما سمعتم وأطعتم و............
خيل لي وأنا مستغرق في القراءة ، بصرير خافت يصدر من تجاه الصالة ، توقفت لحظات وأصغيت السمع .. لا شيء .. ربما صوت الرياح ..
لماذا أستدعيتني ؟ ستموت ..
دوت تلك الهمسة لتخترق أذني ، فتلفت حولي في هلع .. لا شيء أيضاً .. هل أتخيل أم ماذا؟
لاشيء غير سكون الليل ، وقطرات المطر تضرب الزجاج في رفق ..
فجأة وجدت المقعد يتحرك .. نهضت في وجل لأراقبه .. لكني وجدته ساكن كما هو .. مجرد مقعد من الخشب كأي مقعد آخر ..
لابد أن هذا من تأثير البرد والمطر الذي أغرقني .. لابد ..
بروووووووووم
اللعنة ما هذا أيضاً ؟
توجهت إلى الصالة حيث أتى منها الصوت .. ووقفت في منتصفها متفحصاً إياها .. من أين أتى هذا الصوت ؟
سأعترف أنني كدت افقد الوعي من الخوف والهلع .. فما يحدث الآن داخل شقتي خارق عن الطبيعة ..
صوت آخر دوى في قوة ، جعلني أقفز في فزع .. هذه المرة آتى من حجرة مكتبي .. حيث الكتاب ..
تقدمت نحو المكتب في رعب وبطء شديد .. لو ظهر لي ذلك الكيان الشيطاني سأموت بسكتة قلبية على الأقل ..
مددت عنقي ببطْ داخل المكتب ، ثم تشجعت ودلفت إليها ، لكن لا شيء أيضاً و........
أنفتحت النافذة بعنف شديد وأصطدمت بالحائط ليتهشم زجاجها بدوي مزعج مزق سكون الليل ، وأندفعت موجة شديدة البرودة إلى الداخل ، لتزيد من رجفتي ..
شعرت بدقات قلبي تدق في عنف ، وهتفت لنفسي : يكفي هذا الآن .. سأغادر هذه الشقة الملعون ..
هممت بمغادرة المكتب عندما أنغلق بابها في وجهي بمنتهى العنف ..
وهنا فقط بدأت الأحداث المرعبة ..
* * *
بدأ الأمر بمكتبي الخشب .. لقد وجدته يتزحزح على أرضية الغرفة وكأنه يزحف ، أو كأن يد خفية تجذبه ..
ثم أخذ يهتز كورقة معلقة فوق غصن أحد الأشجار .. يرتجف وأدراجه تندفع إلى الأمام في بطء مخيف .. وفجأة
وجدت ما بداخله من أوراق تندفع إلى سقف الحجرة متبعثرة ، وكأن هناك من يلقي بها ..
أرتجفت أوصالي من الرعب والهلع ، وحاولت بإستماتة فتح باب الحجرة .. مرت ثواني كأنها ساعات حتى نجحت أخيراً في فتح الباب .. قفزت خارج الحجرة كالبرق ، لأجد خزانة الكتب تهوي خلفي محدثة دوياً هائلاً .. لم ألتفت لها وركضت تجاه باب الخروج ..
وبينما أعبر بجوار المرآة الموضوعة على جدار الممر المؤدي إلى باب الخروج ، وجدتها تتشقق بصرير مزعج مخيف ، ثم تهوي قطعاً مهشمة ..
بدأ المنزل بالكامل يرتج وكأن زلزلاً قوياً قد أصابه ، وكل ما بداخل الشقة يهتز وكأن الجنون قد أصابه .. المقاعد والمنضدة .. الفراش وخزانة الملابس .. حتى أدوات المطبخ والموقد .. كل شيء كان يهتز بقوة ..
وفجأة..
وجدت شقاً رفيعاً يتسع ويمتد على الجدران ، ويمر بسقف الشقة ، والغبار والأتربة تتناثر .. تملكني هلع شديد وحاولت الركض خارجاً ، لكن الرعب جمدني مكاني .. ولم أجد ما أفعله غير أن أغطي أذني بكفاي وأصرخ في هيستريا :
- كفى .. ماذا تريدون ؟
مع صرختي توقف كل شيء دفعة واحدة .. وهدأ المكان بشكل عجيب .. تاملت المكان حولي وتسألت : هل أنتهى كل شيء ؟
جائني الجواب على شكل زئير شيطاني رهيب ، كاد يوقف قلبي عن العمل .. كان الزئير يأتي من خلفي تماماً .. أستدرت ببطء شديد لأرى مصدر الصوت .. ورأيته ..
كان شاهق الطول بحق ، حتى أن رقبته لمست السقف .. أما رأسه كانت منحنية تجاهي ، ومحدقة في وجهي بعيون نارية متوهجة ..
سالت الدموع من عيني من أثر الرعب الشديد الذي تملكني ، وتمتمت بصوت خافت مبحوح لا يكاد يخرج من فمي :
- ما أنت بحق الجحيم ؟
* * *
أتسعت أعين ذلك الكيان الدخاني في غضب ، وأطلق هديراً وحشياً هائلاً في وجهي مباشرة .. شعرت بلفح الهواء الساخن المنبعث منه ، يضرب وجهي في قوة .. ووجدت جسدي يطير بعنف شديد إلى الخلف .. أرتطمت بباب الشقة في عنف ، ووجدته ينخلع من مكانه ويهوي أرضاً وأنا فوقه ..
نهضت وأنا أشعر بألم شديد ، لكني تحاملت بصعوبة .. يجب أن أهرب .. يجب ..
أندفعت أهبط درجات السلم وما زال الألم ينهش جسدي ، لكن كان علي إما التحامل والهرب أو الموت .. لا يوجد حل آخر ..
خرجت من مدخل العمارة إلى الطريق حيث الظلام والمطر .. وأخذت أعدو بكل ما لدي من قوة .. لا أعرف إلى أين سأذهب .. لكني لا بد من الأبتعاد عن ذلك الشيء ..
واصلت الركض وعقلي قد بدأ يفهم كل شيء ، هذا الكتاب اللعين به تعويذة أو عبارة ما .. وكل من يقرأها يظهر له هذا الكيان الشيطاني ..
ما العمل الآن ؟ هل سأستطيع الخلاص من هذا الشيء ..
تلفت حولي بحذر حتى لا أنزلق على الأرض المبللة بالمطر ، لكني لم أجد له أي أثر .. أبطئت قليلاً وأنا أتسائل أين ذهب ؟ وفجأة ..
وجدته يندفع من باطن الأرض في سرعة هائلة متجهاً نحوي .. أخذت أركض بكل قوتي وأنا أصرخ فزعاً .. حتى لمحت مسجد قريب وأبوابه مفتوحة .. هذا هو الخلاص ..
توجهت على الفور إلى المسجد وأنا أدعوا الله في سري أن أنجح في الهروب .. لكن ذلك الكائن الضباب ظهر فجأة بيني وبين المسجد .. يحاول منعي وسحبي إلى عالمه السفلي ..
وقفت أحدق فيه وأنا أرتجف من الرعب ، وأنتظر ردة فعله .. ولكن ما فعله كان عجيباً !!
* * *
وجدته يفرد ذراعيه وجسده الدخاني ينساب خلفه كجناح الطير .. وكان جسده يتمدد ويزداد حجماً .. ثم أرتفع قليلاً عن الأرض ، وأشتعلت عيناه فجأة بلهيب مستعر وكأنها مصباحين قويين مشتعلان في الظلام .. ثم أندفع نحوي بكل قوته .. تسمرت مكاني لحظات ، لكني سيطرت على جسدي وأنحنيت بسرعة بالغة ، لأجد ذلك الكيان الشيطاني يعبر من فوقي كطلقة الرصاص ، مطلقاً هديراً مرعباً للغاية ..
أندفعت كالبرق نحو المسجد ودلفت داخله وقلبي يكاد يقف من سرعة ضرباته .. ثم أستدرت للخلف لأراقب ذلك المخلوق ، وأنا أدعو في سري أن تمنعه قدسية المكان من الدخول ..
طار ذلك الكيان المرعب لأعلى ، ثُم أنقض كالصقر تجاه باب المسجد ، ولكن ما حدث أدهشني بحق..
أثناء أنقضاضة أرتد فجأة للخلف وكأن شيئاً خفياً يمنعه .. وقف لحظات يحدق في بعينيه النارية .. ثم أنقض مرة آخرى ، لكنه أرتد للخلف في عنف شديد جعله يزأر في شراسة مرعبة ..
تسائلت في أعماقي هل سيذهب بعيداً عني ؟ لكنه لم يبتعد وأخذ يدور محلقاً وكأنه يبحث عن طريقة للدخول ، وفجأة ..
تعالى آذان الفجر ..
شعرت وقتها براحة نفسية هائلة ، وأحسست بالأمان ..
ووجدت ذلك الشيء المرعب وهو يسد أذنيه بكفيه ويصرخ بصوت عالي مرعب ، وكأنه آنين قطيع من الفيلة ..
وأنتهى كل شيء ..
تلاشى ذلك الكائن الدخاني المخيف ، وتبدد جسده الضبابي في الهواء وكأنه لم يكن ..
ركعت على الأرض ساجداً لله أحمده على فضله وعلى نجاتي من مصير مرعب ، ثم نهضت لكي أتوضأ لألحق صلاة الفجر .
تمت بحمد الله